.فَائِدَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} نَاسِخَةٌ لِمِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةٍ ثُمَّ صَارَ آخِرُهَا نَاسِخًا لِأَوَّلِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ:
{فَإِنْ تَابُوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}.قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مِنَ الْمَنْسُوخِ ثَبَتَ حُكْمُهَا سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا قَوْلَهُ فِي الْأَحْقَافِ:
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وَنَاسِخُهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْفَتْحِ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ أَغْرَبِ آيَةٍ فِي النَّسْخِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا مَنْسُوخَانِ وَوَسَطُهَا مُحْكَمٌ.وَقَسَّمَهُ الْوَاحِدِيُّ أَيْضًا إِلَى نَسْخِ مَا لَيْسَ بِثَابِتِ التِّلَاوَةِ كَعَشْرِ رَضَعَاتٍ وَإِلَى نَسْخِ مَا هُوَ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ بِمَا لَيْسَ بِثَابِتِ التِّلَاوَةِ كَنَسْخِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْمُحْصِنِينَ بِالرَّجْمِ وَالرَّجْمُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ الآن وإنه كَانَ يُتْلَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحُكْمُ ثَبَتَ وَالْقِرَاءَةُ لَا تَثْبُتُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ التِّلَاوَةُ فِي بَعْضٍ وَلَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنٌ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنٌ يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُتْلَى وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِنَا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ مَصْلَحَتِنَا تَعَلُّقَ الْعَمَلِ بهذا الوجه.
.التنبيه الثالث:
في تقسيم القرآن على ضروب من وجه آخر.قَسَّمَ بَعْضُهُمُ النَّسْخَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:الْأَوَّلُ: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ النَّسْخُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَأَمْرِ الْخَلِيلِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ثم نسخه سبحانه بقوله:
{أأشفقتم} الْآيَةَ.الثَّانِي: وَيُسَمَّى نَسْخًا تَجَوُّزًا وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا كَحَتْمِ الْقِصَاصِ.وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَ تَشْرِيعِ الدِّيَةِ:
{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ من ربكم ورحمة} وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا ثم نسخ كنسخه التوجه إلى بيت الْمُقَدَّسِ بِالْكَعْبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْنَا مِنْ قَضِيَّةِ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَكَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ.الثَّالِثُ: مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ إيجاب لذلك وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نسء كما قال تعالى:
{أو ننسئها} فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى.وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ أَبَدًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأضاحي من أجل الرأفة ثُمَّ وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَنْسُوخًا بَلْ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْحُكْمِ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ حتى لو فاجأ أَهْلَ نَاحِيَةٍ جَمَاعَةٌ مَضْرُورُونَ تَعَلَّقَ بِأَهْلِهَا النَّهْيُ.ومن هذا قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَلَمَّا قَوِيَ الْحَالُ وَجَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر.وَالْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ الضَّعْفِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» عَادَ الْحُكْمُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَإِذَا رَأَيْتَ هَوًى مُتَّبَعًا وَشُحًّا مُطَاعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ».وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى حَكِيمٌ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ضَعْفِهِ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَالِ رَأْفَةً بِمَنْ تَبِعَهُ وَرَحْمَةً إِذْ لَوْ وَجَبَ لَأَوْرَثَ حَرَجًا وَمَشَقَّةً فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَهُ وَنَصَرَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخِطَابِ مَا يُكَافِئُ تِلْكَ الْحَالَةَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْكُفَّارِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ إِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَيَعُودُ هَذَانِ الْحُكْمَانِ أَعْنِي الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ الضَّعْفِ وَالْمُسَايَفَةَ عِنْدَ الْقُوَّةِ بِعَوْدِ سَبَبِهِمَا وَلَيْسَ حُكْمُ الْمُسَايَفَةِ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْمُسَالَمَةِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتِهِ.
.فَائِدَةٌ:
قِيلَ فِي قوله تعالى:
{ما ننسخ من آية} وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ مُهَيْمِنٌ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ وَلَيْسَ يَأْتِي بَعْدَهُ نَاسِخٌ لَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ فَمَعْلُومٌ وَهُوَ قَلِيلٌ بَيَّنَ اللَّهُ نَاسِخَهُ عِنْدَ مَنْسُوخِهِ كَنَسْخِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ وَالْعُدَّةِ وَالْفِرَارِ فِي الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَمَنْ تَحَقَّقَ عِلْمًا بِالنَّسْخِ عُلِمَ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْسَأِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ الْمُجْمَلِ كَالسَّبِيلِ فِي حَقِّ الْآتِيَةِ بِالْفَاحِشَةِ فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُدْعَى نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ فَهُوَ بيان لحكم الْقُرْآنِ وَقَالَ سُبْحَانَهُ:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للناس}.وَأَمَّا بِالْقُرْآنِ عَلَى مَا ظَنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَسَأٌ وَتَأْخِيرٌ أَوْ مُجْمَلٌ أُخِّرَ بَيَانُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ خِطَابٌ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوَّلِهِ خِطَابُ غَيْرِهِ أَوْ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومٍ أَوْ حُكْمٌ عَامٌّ لِخَاصٍّ أَوْ لِمُدَاخَلَةِ مَعْنًى فِي مَعْنًى وَأَنْوَاعُ الْخِطَابِ كَثِيرَةٌ فَظَنُّوا ذَلِكَ نَسْخًا وَلَيْسَ بِهِ وَأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَعَاضِدٌ وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ فَقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لحافظون}.
.النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ المُوهِمِ والْمُخْتَلِفِ:
وَهُوَ مَا يُوهِمُ التَّعَارُضَ بَيْنَ آيَاتِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ لِلْمُبْتَدِئِ مَا يُوهِمُ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ بِهِ فَاحْتِيجَ لِإِزَالَتِهِ كَمَا صُنِّفَ فِي مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ رَأَيْتُ لِقُطْرُبٍ فِيهِ تَصْنِيفًا حَسَنًا جَمَعَهُ عَلَى السُّوَرِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.وَقَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَفَّقَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وَقَوْلِهِ:
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَهُ بِعَشْرٍ لَكِنَّهُ وَعَدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَمِيعًا انْتَهَى.وَقِيلَ تَجْرِي آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَتَمَّ بِالْعَشْرِ فَاسْتَقَرَّتِ الْأَرْبَعُونَ ثُمَّ أَخْبَرَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا اسْتَقَرَّ.وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لا أقسم بهذا الْبَلَدِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهَذَا ثُمَّ أقسم به في قوله:
{وهذا البلد الأمين} فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أُجِيبُكَ ثُمَّ أَقْطَعُكَ أَوْ أَقْطَعُكَ ثُمَّ أُجِيبُكَ فقال بل اقطعني ثم أجبني فقال اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ رِجَالٍ وَبَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ وَكَانُوا أَحْرَصَ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَجِدُوا فِيهِ مَغْمَزًا وَعَلَيْهِ مَطْعَنًا فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مُنَاقَضَةً لَتَعَلَّقُوا بِهِ وَأَسْرَعُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا وَجَهِلْتَ فَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْهُ مَا أَنْكَرْتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُدْخِلُ (لَا) فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهَا وَتُلْغِي مَعْنَاهَا وَأَنْشَدَ فِيهِ أَبْيَاتًا وَالْقَاعِدَةُ في هذا أشباهه أَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا اخْتَلَفَتْ وَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ اخْتِلَافًا.
.فَائِدَةٌ عن الغزالي في معنى الاختلاف:
سُئِلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافا كثيرا} فأجاب بِمَا صُورَتُهُ: الِاخْتِلَافُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ بَلْ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ عَنْ ذَاتِ الْقُرْآنِ يُقَالُ هَذَا كَلَامٌ مُخْتَلِفٌ أَيْ لَا يُشْبِهُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ فِي الْفَصَاحَةِ إِذْ هُوَ مُخْتَلِفٌ أَيْ بَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ وَبَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا أَوْ هُوَ مُخْتَلِفُ النَّظْمِ فَبَعْضُهُ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَبَعْضُهُ مُنْزَحِفٌ وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجَزَالَةِ وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُهُ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ فَإِنَّهُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي النَّظْمِ مُنَاسِبٍ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَعَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ فَلَيْسَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَمَسُوقٌ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ إِذْ كَلَامُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ إِذَا قِيسَ عَلَيْهِ وُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي مِنْهَاجِ النَّظْمِ ثُمَّ اخْتِلَافٌ فِي دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ بَلْ فِي أَصْلِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى يَشْتَمِلَ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ فَلَا تَتَسَاوَى رِسَالَتَانِ وَلَا قَصِيدَتَانِ بَلْ تَشْتَمِلُ قَصِيدَةٌ عَلَى أَبْيَاتٍ فَصَيْحَةٍ وَأَبْيَاتٍ سَخِيفَةٍ وَكَذَلِكَ تَشْتَمِلُ الْقَصَائِدُ وَالْأَشْعَارُ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ وَالْفُصَحَاءَ
{كل واد يهيمون} فَتَارَةً يَمْدَحُونَ الدُّنْيَا وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الْجُبْنَ فَيُسَمُّونَهُ حَزْمًا وَتَارَةً يَذُمُّونَهُ وَيُسَمُّونَهُ ضَعْفًا وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا تَهَوُّرًا وَلَا يَنْفَكُّ كَلَامُ آدَمِيٍّ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ لِأَنَّ مَنْشَأَ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ اخْتِلَافُ الْأَغْرَاضِ وَاخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْإِنْسَانُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَتُسَاعِدُهُ الْفَصَاحَةُ عِنْدَ انْبِسَاطِ الطَّبْعِ وَفَرَحِهِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِانْقِبَاضِ وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَغْرَاضُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ مَرَّةً وَيَمِيلُ عَنْهُ أُخْرَى فَيُوجِبُ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْأَغْرَاضِ اخْتِلَافًا فِي كَلَامِهِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا تُصَادِفُ اللِّسَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَعَلَى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرًا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَلَوْ كَانَ هَذَا كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَوُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّاسِ فَهُوَ تَبَايُنٌ فِي آرَاءِ النَّاسِ لَا فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمُرَادَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ فِي الضَّلَالِ وَالْهُدَى فَلَوْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ لَكَانَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ خُلْفًا وَهِيَ أشد أنواع الاختلاف والله أعلم.
.فصل: في القول عند تعارض الآي:
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرابيني: إِذَا تَعَارَضَتِ الْآيُ وَتَعَذَّرَ فِيهَا التَّرْتِيبُ وَالْجَمْعُ طُلِبَ التَّارِيخُ وَتُرِكَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا بِالْمُتَأَخِّرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ التَّارِيخُ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ عُلِمَ بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا.قَالَ: وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ تَعْرَيَانِ عَنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَذَكَرُوا عِنْدَ التَّعَارُضِ مُرَجِّحَاتٍ:الْأَوَّلُ: تَقْدِيمُ الْمَكِّيِّ عَلَى الْمَدَنِيِّ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَكِّيَّةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدَنِيَّةُ قَبْلَهَا فَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ عَلَى الْمَكِّيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ وَالتَّقْدِيمِ إِذْ كَانَ غَالِبُ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ نُزُولُهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ.الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْآخَرُ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ أَهِلِ الْمَدِينَةِ فَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ أَحْوَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَنْ دخله كان آمنا} مَعَ قَوْلِهِ:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَإِذَا أَمْكَنَ بِنَاءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ جُعِلَ التَّخْصِيصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ومن دخله كان آمنا} كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَمِثْلِ قَوْلِهِ:
{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ صَيْدِ مَكَّةَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا علمتم من الجوارح مكلبين} فَجَعَلَ النَّهْيَ فِيمَنِ اصْطَادَهُ فِي الْحَرَمِ وَخَصَّ مَنِ اصْطَادَهُ فِي الْحِلِّ وَأَدْخَلَهُ حَيًّا فِيهِ.الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الظَّاهِرَيْنِ مُسْتَقِلًّا بِحُكْمِهِ وَالْآخَرُ مُقْتَضِيًا لَفْظًا يُزَادُ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَتِمُّوا الحج والعمرة} مَعَ قَوْلِهِ:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهدي} وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْحَصْرِ وَلَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ الْإِحْلَالِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ فَيُقَدَّمُ الْمَنْعُ مِنَ الْإِحْلَالِ عِنْدَ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} عَلَى مَا عَارَضَهُ مِنَ الْآيَةِ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُمُومَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ فَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأختين} بقوله:
{وما ملكت أيمانكم} فَيُخَصُّ الْجَمْعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلا ما قد سلف} فَتُحْمَلُ آيَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْقَصْدُ فِيهَا بَيَانُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ وَتُحْمَلُ آيَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى زَوَالِ اللَّوْمِ فِيمَنْ أَتَى بِحَالٍ.الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَلَى لَفْظٍ تَعَلَّقَ بِمَعْنَاهُ وَالْآخَرِ بِاسْمِهِ كَقَوْلِهِ:
{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غيركم} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} الْآيَةَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْآيَةِ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمٍ فَاسِقٍ عَلَى كَافِرٍ وَأَنْ يُقْبَلَ الْكَافِرُ عَلَى الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ يُحْمَلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ:
{أَوْ آخران من غيركم} عَلَى الْقَبِيلَةِ دُونَ الْمِلَّةِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ عَلَى عُمُومِ النِّسْيَانِ فِي الْمِلَّةِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى تَعْيِينِ اللَّفْظِ وَتَخْصِيصِ الْغَيْرِ بِالْقَبِيلَةِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الِاسْمِ عَلَى عُمُومِ الْغَيْرِ.السَّادِسُ: تَرْجِيحُ مَا يُعْلَمُ بِالْخِطَابِ ضَرُورَةً عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُ ظَاهِرًا كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَحَلَّ الله البيع} على قوله:
{وذروا البيع} فَإِنَّ قَوْلَهُ:
{وَأَحَلَّ} يَدُلُّ عَلَى حِلِّ الْبَيْعِ ضَرُورَةً وَدَلَالَةُ النَّهْيِ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ إِمَّا أَلَّا تَكُونَ ظَاهِرَةً أَصْلًا أَوْ تَكُونَ ظَاهِرَةً منحطة عن النص.